فصل: تفسير الآية رقم (96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏اذهبوا بِقَمِيصِى هذا‏}‏ هو القميص الذي كان عليه حينئذٍ كما هو الظاهر؛ وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله تعالى‏.‏ وضعف هذا بأن قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 94‏]‏ يدل على أنه عليه السلام كان لابساً له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى، وقيل‏:‏ هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده، وأياً ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا ‏{‏فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ أي يصر بصيراً ويشهد له ‏{‏فارتد بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 96‏]‏ أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله‏:‏ ‏{‏وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا‏.‏

وحاصل الوجهين كما قال بعض المدققين أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلاً في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفادياً عن أمر الإخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقاً بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر، وفيه أن صيرورته بصير أمر مفروع عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضاً أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر‏.‏ وقال الإمام‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوى الروح ويزيل الضعف عن القوى فحينئذٍ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك، قال الكلبي‏:‏ وكان أولئك الأهل نحواً من سبعين إنساناً وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده، وقيل‏:‏ ثمانون، وقيل‏:‏ تسعون وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون‏.‏ وقيل‏:‏ ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ العير‏}‏ خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريباً من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه، يقال‏:‏ فصل من البلد يفصل فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلاً إذا فرقه وهو متعد‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وَلَمَّا أَيَّتُهَا العير‏}‏ ‏{‏قَالَ أَبُوهُمْ‏}‏ يعقوب عليه السلام لمن عنده ‏{‏إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏ أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس، وقال الحسن‏.‏ وابن جريج‏.‏ من ثمانين فرسخاً، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوماً‏.‏ وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد‏:‏ صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قاله، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذٍ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضاً إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى ‏{‏لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ‏}‏ أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد كما في قوله‏:‏

إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند

وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال‏:‏ فند الرجل إذا نسبه إلى الفند، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجراً لقلة فهمه كما قيل‏:‏

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى *** فكن حجراً من يابس الصخر جلمد

ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل؛ قال الشاعر‏:‏

يا عاذلي دعا لومي وتفنيدي *** فليس ما قلت من أمر بمردود

وجاء أفند الدهر فلاناً أفسده، قال ابن مقتل‏:‏

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه *** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ويقال‏:‏ شيخ مفند إذا فسد رأيه، ولا يقال‏:‏ عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وذكره الزمخشري في «الكشاف» وغيره، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلاً وإن كان ناقصاً يشتد نقصه بكبر السن فتأمل، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت‏:‏ إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك، والمخاطب قيل‏:‏ من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير، وقيل‏:‏ ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي أولئك المخاطبون ‏{‏تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم‏}‏ أي لفي ذهابك عن الصواب قدماً بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب، وقال مقاتل‏:‏ هو الشقاء والعناء، وقيل‏:‏ الهلاك والذهاب من قولهم‏:‏ ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة‏:‏ لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَن جَاء البشير‏}‏ قال مجاهد‏.‏ هو يهوذا‏.‏ روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم، و‏{‏ءانٍ‏}‏ صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما‏.‏ وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير ‏{‏وَجَاء البشير مِن بَيْنِ يَدَيْهِ العير‏}‏ ‏{‏ألقيااه‏}‏ أي ألقى البشير القميص ‏{‏مُكِبّاً على وَجْهِهِ‏}‏ أي وجه يعقوب عليه السلام، وقيل‏:‏ فاعل ‏{‏ألقى‏}‏ ضمير يعقوب عليه السلام أيضاً والأول أوفق بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَلْقُوهُ على وجه أبي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 93‏]‏ وهو يبعد كون البشير مالكاً كما لا يخفى، والثاني قيل‏:‏ هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال‏:‏ إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره ‏{‏فارتد بَصِيرًا‏}‏ والظاهر أنه أريد بالوجه كله، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه، وقيل‏:‏ عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه، وقيل‏:‏ عبر بالكل عن البعض ‏{‏وارتد‏}‏ عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار فبصيراً خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها فبصيرا حال، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر‏.‏

وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلاً من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى‏.‏ وتعقب بأن فعيلاً هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما ‏{‏تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو طريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً لأن فعيلاً بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع، وأياً ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيراً بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعاً في هذه القصة، وقيل‏:‏ إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال‏:‏

وإني لأستشفي بكل غمامة *** يهب بها من نحو أرضك ريح

وقال آخر‏:‏

ألا يا نسيم الصبح مالك كلما *** تقربت منا فاح نشرك طيبا

كأن سليمى نبئت بسقامنا *** فأعطتك رياها فجئت طبيبا

إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفاً عن الإمام هذا، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف‏؟‏ قال‏:‏ ملك مصر فقال‏:‏ ما أصنع بالملك على أي دين تركته‏؟‏ قال‏:‏ على الإسلام قال‏:‏ الآن تمت النعمة‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال‏:‏ لما جاء البشير إليه عليه السلام قال‏:‏ ما وجدت عندنا شيئاً وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت، وجاء في رواية أنه قال له‏:‏ ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك ‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ‏}‏ يحتمل أن يكون خطاباً لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف، ويحتمل أن يكون خطاباً لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم‏.‏ لا تيأسوا من رحمة الله وهو الأنسب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة الله سبحانه، والجملة على الاحتمالين مستأنفة وعلى الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى إني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام، واستظهر في «البحر» كونها مقول القول وهو كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ طلبوا منه عليه السلام الاستغفار، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكاً للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا خاطئين‏}‏ أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار، وقيل‏:‏ حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ روي عن ابن عباس مرفوعاً أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب، وروي عنه أيضاً كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه، وقيل‏:‏ سوفهم إلى قيام الليل، وقال ابن جبير‏.‏ وفرقة‏:‏ إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها يستجاب، وقال الشعبي‏:‏ أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في «المغني» من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوى بينهما، وقال بعض المحققين‏:‏ هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقاً ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلاً ومضى ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف، وقيل‏:‏ أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين‏.‏ نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم‏.‏ أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال‏:‏ إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجياً فقال بعضهم لبعض‏:‏ لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقى منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال‏:‏ ما لكم يا بني‏؟‏ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف‏؟‏ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما‏؟‏ قالا بلى قالوا فإن عفوكما لا يغني عنا شيئاً إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني‏؟‏ قالوا‏:‏ نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبداً قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال‏:‏ إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة، قيل‏:‏ وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال‏:‏ ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا» فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم، وأخرج أبو عبيد‏.‏ وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله‏.‏ وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل‏.‏

واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن ‏{‏أَسْتَغْفِرُ‏}‏ متعد إلى مفعولين يقال‏:‏ استغفرت الله الذنب، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من ‏{‏استغفر لَنَا‏}‏ أولهما، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في ‏{‏سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ‏}‏ ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضاً تسجيلاً على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلوماً من الأول مع قرب العهد بذكره اه، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ‏}‏ روي أنه عليه السلام جهز إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وفي التوراة أنه عليه السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة براً وطعاماً‏.‏

وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام خرج هو والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال‏:‏ يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال‏:‏ لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له‏:‏ إنك قادم فتلقاك بما ترى، فلما لقيه ذهب يوسف عليه السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على الله تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال‏:‏ السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان عنى، وجاء أنه عليه السلام قال لأبيه‏:‏ يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك‏.‏

وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء ‏{‏ءاوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ‏}‏ أي ضمهما إليه واعتنقهما، والمراد بهما أبوه وخالته ليا، وقيل‏:‏ راحيل وليس بذاك، والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وقيل‏:‏ إنه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أماً وإن لم تكن خالة، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي، وقال الحسن‏.‏ وابن إسحاق‏:‏ إن أمه عليه السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين، وعن الحسن‏.‏ وابن إسحاق القول بذلك أيضاً إلا أنهما قالا‏:‏ إن الله تعالى أحياها له ليصدق رؤياه، والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر، وفي مصحف عبد الله ‏{‏إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ وَإِخْوَتِهِ‏}‏ ‏{‏وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ‏}‏ وكأنه عليه السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضرباً فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما إليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان‏:‏ أحدهما‏:‏ دخول عليه خارج البلدة، والثاني‏:‏ دخول في البلدة، وقيل‏:‏ إنهم إنما دخلوا عليه عليه السلام في مصر وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا مِصْرَ‏}‏ تمكنوا منها واستقروا فيها ‏{‏إِن شَاء الله ءامِنِينَ‏}‏ أي من القحط وسائر المكاره، والاستثناء على ما في التيسير داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لا في الأمر‏.‏

وفي «الكشاف» أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل‏:‏ أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه، وكأنه أشار بقوله‏:‏ فكأنه قيل الخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي، وقال في «الكشف»‏:‏ إن فيه إشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت‏:‏ ادخل ساجداً كنت آمراً بهما وليس في إشارة إلى أن في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك، والحق مع العلامة كما لا يخفى، وزعم صاحب الفرائد أن التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين، فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف لا يفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة، وتعقب بأنه لا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه فـ يالكلام أن يكون معترضاً فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ‏}‏ عند نزولهم بمصر ‏{‏عَلَى العرش‏}‏ على السرير كما قال ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وغيرهما تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة ‏{‏وَخَرُّواْ لَهُ‏}‏ أي أبواه وإخوته، وقيل‏:‏ الضمير للإخوة فقط وليس بذاك فإن الرؤيا تقتضي أن يكون الأبوان والإخوة خروا له ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ أي على الجباه كما هو الظاهر، وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزاً عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير، قال قتادة‏:‏ كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم، وقيل‏:‏ ما كان ذلك إلا إيماء بالرأس، وقيل‏:‏ كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض، وقيل‏:‏ المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏ فقد قيل‏:‏ المراد لم يمروا عليها كذلك، وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط، وقيل‏:‏ ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجداً لله شكراً على ما أوزعهم من النعمة، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَقَالَ يأَبَتِ‏}‏ إذ فيها ‏{‏رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏، ودفع بأن القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما، وقيل‏:‏ اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة؛ قال حسان‏:‏

ما كنت أعرف أن الدهر منصر *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالأشياء والسنن

وذكر الإمام أن القول بأن السجود كان لله تعالى لا ليوسف عليه السلام حسن، والدليل عليه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا‏}‏ مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه السلام كان قبل السعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر لله تعالى، ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر، ودفع ما يرد عليه مما علمت بما علمت، ثم قال‏:‏ وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة، وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به ذكر كونه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به، وبأنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو وكان يوسف عليه السلام عالماً بالأمر فلم يسعه إلا السكوت والتسليم، وكأن في قوله‏:‏ ‏{‏يا أبت‏}‏ الخ إشارة إلى ذلك كأنه يقول‏:‏ يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سبباً لوجوب الذبح في اليقظة‏.‏

ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لما رأى سجود أبويه وإخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه، ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب عليه السلام كأنه قيل‏.‏ له‏:‏ أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فإذا وجدته فاسجد له‏.‏ ويحتمل أيضاً أنه عليه السلام إنما فعله مع عظم قدره لتتبعه الإخوة فهي لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ثوران الأحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه السلام‏.‏ ولا يخفى أن الجواب عن الأول لا يفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر، والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضاً الإمام وهي كما ترى، وأحسنها احتمال أن الله تعالى قد أمره بذلك لحكمة يعلمها إلا هو‏.‏ ومن الناس من ذهب إلى أن ذلك السجود لم يكن إلا من الأخوة فراراً من نسبته إلى يعقوب عليه السلام لما علمت، وقد رد بما أشرنا إليه أولاً من أن الرؤيا تستدعي العموم، وقد أجاب عن ذلك الإمام بأن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه السلام، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والإخوة جميعاً والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام ‏{‏على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق برؤياي وجوز تعلقها بتأويل لأنها أولت بهذا قبل وقوعها، وجوز أبو البقاء كونه متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏رؤياى‏}‏ وصحة وقوع الغايات حالاً تقدم الكلام فيها ‏{‏قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا‏}‏ أي صدقاً، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازاً، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وجوز أن يكون حالاً أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقاً وأن يكون مصدراً من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و‏{‏حَقّاً‏}‏ في معنى تحقيق، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة ‏{‏وَقَدْ أَحْسَنَ بَى‏}‏ الأصل كما في «البحر» أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏ بالباء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ وكقول كثير عزة

اسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وحمله بعضهم على تضمين ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف إلا أن بعضهم أنكر تعدية لطف بالباء وزعم أنه لا يتعدى إلا باللام فيقال‏:‏ لطف الله تعالى له أي أوصل إليه مراده بلطف وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعول، وقيل‏:‏ الباء بمعنى إلى، وقيل‏:‏ المفعول محذوف أي أحسن صنمعه بي فالباء متعلقة بالمعفول المحذوف، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريي، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن‏}‏ منصوب بأحسن أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج من السجن بعد أن ابتلى به وما عطف عليه وإذا كانت ظرفية فهو غيرهما، ولم يصرح عليه السلام بقصة الجب حذراً من تثريب إخوته وتناسياً لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجداً ولأن الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو‏}‏ أي البادية، وأصله البسيط من الأرض وإنما سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه ثم أطلق على البرية مطلقاً، وكان منزلهم على ما قيل‏:‏ بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب إبل وغنم، وقال الزمخشري‏:‏ كانوا أهل عمد وأصحاب مواض ينتقلون في المياه والمناجع‏.‏ وزعم بعضهم أن يعقوب عليه السلام إنما تحول إلى البادية بعد النبوة لأن الله تعالى لم يبعث نبياً من البادية‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ كان يعقوب عليه السلام قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحد جبلها‏:‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إن بدا اسم موضع معروف يقال‏:‏ هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل بقوله‏:‏

وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا *** إلي وأوطاني بلاد سواهما

فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال‏:‏ بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال‏:‏ أغاروا غوراً إذا أتوا الغور، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جداً ‏{‏مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى‏}‏ أي أفسد وحرش، وأصله منه نزغ الرابض الدابة إذا نسخها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازاً لأنه بوسوسته وإلقائه، وفيه تفاد عن تقريبهم أيضاً تعظيماً لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعاً‏.‏

واستدل الجبائي والكعبي‏.‏ والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر ‏{‏إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء‏}‏ أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئاً سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال‏:‏ اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد، فاللام متعلقة بلطيف لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد، وقال بعضهم إن المعنى لأجل ما يشاء، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفاً ما في ذلك ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العليم‏}‏ بوجوه المصالح ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره‏.‏ روى أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال‏:‏ يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى علي ثمان مراحل قال‏:‏ أمرني جبريل قال‏:‏ أو ما تسأله‏؟‏ قال‏:‏ أنت أبسط مني إليه فسأله قال‏:‏ جبريل عليه السلام الله تعالى أمرني بذلك لقولك‏:‏ ‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 13‏]‏ قال‏:‏ فهلا خفتني وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته‏.‏ وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحى إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الأنبياء نفساً وأباً وجداً وكان مشهوراً في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطناً زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعياً إلى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره‏؟‏‏.‏

وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل‏:‏ ثماني عشرة سنة، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة، وعن حذيفة أنها سبعون سنة، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين، قال ابن شداد‏:‏ وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ قَدْ نَصِيبٌ مّنَ الملك‏}‏ أي بعضاً عظيماً منه فمن للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام، وبعضهم قدر عظيماً في النظم الجليل على أن مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن ‏{‏الملك‏}‏ ما يعم مصر وغيهرا، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏ لأنه لم يكن مستقلاً فيه وإن كان ممكناً فيه وفيه تأمل، وقيل‏:‏ أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته، وقال عطاء ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك ‏{‏وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث‏}‏ أي بعضاً من ذلك كذلك، والمراد بتأويل الأحاديث أما تعليم تعبي الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل‏.‏ وقرأ عبد الله وابن ذر ‏{‏آتيتن وعلمتن‏}‏ بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة، وحكى ابن عطية عن الأخير ‏{‏رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى‏}‏ بغير ‏{‏قَدْ‏}‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات والارض‏}‏ أي مبدعهما وخالقهما، ونصبه على أنه نعت لرب أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادي ثان، ووصفه تعالى به بعدو صفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادىء ما يعقبه من قوله‏:‏ ‏{‏رَبّ قَدْ‏}‏ متولى أموري ومتكفل بها أو موالي لي وناصر ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ فالولي إما من الولاية أو الموالاة، وجوز أن كيون بمعنى الموالي كالمعطي لفظاً ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة ‏{‏تَوَفَّنِى‏}‏ أقبضني ‏{‏مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏}‏ من آبائي على ما روى عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلق اللحاق بمن هو في البداية‏؟‏ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضماً لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحق وإبراهيم عليه السلام، وقال الإمام‏:‏ ههنا وههنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك ههنا انتهى‏.‏

وهو كما ترى، والحق أن يقال‏:‏ إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفاً والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه‏.‏

بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمنى للموت وطلب منه أم لا‏؟‏ فالكثير منهم على أنه طلب وتمنى لذلك، قال الإمام‏:‏ ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه، وأيضاً يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه؛ ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج، وقد قال العقلاء‏:‏ من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، والجماع نهاية ما يقال فيه‏:‏ إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك، وفيه أيضاً تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفاً وجلا من ذلك لكفاها عيباً، وقد يقال أيضاً؛ إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالباً لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب، ولله تعالى قول من قال‏:‏ وقال‏:‏

ضجعة الموت رقدة يستريح ال *** جسم فيها والعيش مثل السهاد

تعب كلها الحياة فما أع *** بـ إلا من راغب في ازدياد

إن حزناً فس ساعة الفوت أضعا *** فـ سرور في ساعة الميلاد

وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حباً للقاء الله تعالى مما لا بأس به، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه» الحديث‏.‏ نعم تمنى الموت عند نزول اللابء منتهى عنه ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وقال قوم‏:‏ إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين‏.‏

والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين أما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول‏:‏ إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعاً وعشرين سنة ثم توفى وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثاً وعشرين سنة وقيل‏:‏ أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصل ليكونوا شرعاً فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل‏:‏ من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقيل‏:‏ مائة وسبع سنين، وقد ولد له من امرأة العزيز افراثيم وهو جد يوشع عليه السلام‏.‏ وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان‏.‏

وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال‏:‏ يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال؛ يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال‏:‏ نعم يا أبا وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختى في أرض الشام وجعلها مقبرة، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام عليه يقبله ويبكى وأقام له حزناً عظيماً وحزن عليه أهل مصر كثيراً ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلماعلم ذلك منهم قال لهم‏:‏ لا تخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ماخير بن منشا في حجره أيضاً، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته‏:‏ إني ميت والله سبحانه سيذكركم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحق‏.‏ ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفى عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقى إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102 - 103‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من أنباء يوسف عليه السلام، وما فيه من معنى البعد لما مر مراراً، والخطاب للرسو صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَنبَاء الغيب‏}‏ الذي لا يحوم حوله أحد خبره، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏}‏ اسماً موصولاً مبتدأ و‏{‏مِنْ أَنبَاء الغيب‏}‏ صلته و‏{‏نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ خبره وهو مبني على مذهب مرجوح من جعل سائر أسماء الإشارة موصولات‏.‏

‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ يريد إخوة يوسف عليه السلام ‏{‏إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ‏}‏ وهو جعلهم إياه في غيابة الجب ‏{‏وَهُمْ يَمْكُرُونَ‏}‏ به ويبغون له الغوائل، والجملة قيل‏:‏ كالدليل على كون ذلك من أنباء الغيب وموحي إليه عليه الصلاة والسلام، والمعنى أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السلام حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً سمع ذلك فتعلمته منه، وهذا من المذهب الكلامي على ما نص عليه غير واحد وإنماحذف الشق الأخير مع أن الدال على ما ذكر مجموع الأمرين لعلمه من آية أخرى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 49‏]‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إن هذا تهكم بمن كذبه وذلك من حيث أنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام حاضراً بين يدي أولاد يعقوب عليه السلام ماكرين فنفاه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ وإنما الذي يمكن أن يرتاب فيه المرتاب قبل التعرف هو تلقيه من أصحاب هذه القصة، وكان ظاهر الكلام أن ينفي ذلك فلما جعل المشكوك ما لا ريب فيه لأن كونه عليه الصلاة والسلام لم يلق أحداً ولا سمع كان عندهم كفلق الفجر جاء التهكم البالغ وصار حاصل المعنى قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية وإنكاركم لما أخبر به يفضي إلى أن تكابروه بأنه قد شاهد من مضى منهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء وصاكم الله بهذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ ومنه يظهر فائدة العدول عن أسلوب ‏{‏مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 49‏]‏ إلى هذا الأسلوب وهو أبلغ مما ذكر أولاً، وذكر لترك ذلك نكتة أخرى أيضاً وهي أن المذكور مكرهم وما دبروه وهو مما أخفوه حتى لا يعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ولا يخلو عن حسن، وأياً ما كان ففي الآية إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه‏:‏

‏{‏وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس‏}‏ الظاهر العموم، وقال ابن عباس‏:‏ إنهم أهل مكة ‏{‏وَلَوْ حَرَصْتَ‏}‏ أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك عليهم ‏{‏بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد حسبما اقتضاه استعدادهم ‏{‏و ‏{‏حرص‏}‏ من باب ضرب وعلم وكلاهما لغة فصيحة، وجواب ‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ‏}‏ محذوف للعلم به، والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام فنزلت مشروحة شرحاً وافياً فأمل عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك سبب اسلامهم، وقيل‏:‏ إنهم وعدوه أن يسلموا فلما لم يفعلوا عزاه تعالى بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في المنافقين، وقيل‏:‏ في النصارى، وقيل‏:‏ في المشركين فقط، وقيل‏:‏ في أهل الكتاب فقط؛ وقيل‏:‏ في الثنوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي هذا الانباء أو جنسه أو القرآن، وأياماً كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ أي ما هو إلا تذكير وعظة من الله تعالى ‏{‏للعالمين‏}‏ كافة، والجملة كالتعليل لما قبلها لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لا يختص بهم‏.‏ وقيل‏:‏ اريدانه ليس إلا عظة من الله سبحانه امرت أن أبلغها فوجب على ذلك فكيف أسأل أجراً على أداء الواجب وهو خلاف الظاهر، وعليه تكون الآية دليلاً على حرمة أخذ الأجرة على أدار الواجبات‏.‏ وقرأ مبشر بن عبيد ‏{‏وَمَا‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏للعالمين وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ‏}‏ أي وكم من آية قال الجلال السيوطي‏:‏ إن ‏{‏كأي‏}‏ اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نوناً، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمه في الأصل، وقيل‏:‏ الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور‏:‏ ألا ترى أنك لا تريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمة وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها، وقيل‏:‏ هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال‏:‏ ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات، وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور، ومنه قول أبي لابن مسعود‏:‏ كأين تقرأ سورة الأحزاب آية‏؟‏ فقال‏:‏ ثلاثاً وسبعين، والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافاً لابن قتيبة‏.‏ وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع، والقياس على كم يقتضي أن يضاف إليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها إلا بجملة فعلية مصدرة بماض أو مضارع كما هنا، قال أبو حيان‏:‏ والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم‏.‏ وفي البسيط أنها تكون مبتدأ وخبراً ومفعولاً ويقوال فيها‏:‏ كائن بالمدّ بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك، قرأ ابن كثير ‏{‏وكأ‏}‏ بالقصر بوزن ‏{‏يُؤْمِنُونَ عَمَّ‏}‏ ‏{‏وكأي‏}‏ بوزن رمي وبه، قرأ ابن محيصن ‏{‏وكيىء‏}‏ بتقديم الياء على الهمزة‏.‏ وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ‏{‏وكي‏}‏ بياء مكسورة من غيره مز ولا ألف ولا تشديد و‏{‏سُوء ءايَةً‏}‏ في موضع التمييز و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة، وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري، وقيل‏:‏ هي مبينة للتمييز المقدر، والمراد من الآية الدليل الدال على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، وهي وإن كانت مفردة لفظاً لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن، والمعنى وكاي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية ‏{‏فِي السماوات والارض‏}‏ أي كائنة فيهما من الإجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض العجائب الفائتة للحصر‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

‏{‏يَمُرُّونَ عَلَيْهَا‏}‏ يشاهدونها ‏{‏وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها، وفي هذا من تأكيد تعزيه صلى الله عليه وسلم وذم القوم ما فيه، والظاهر أن ‏{‏فِي السموات والارض‏}‏ في موضع الصفة لآية وجملة ‏{‏يَمُرُّونَ‏}‏ خبر ‏{‏كأين‏}‏ كما أشرنا إليه سابقاً وجوز العكس، وقرأ عكرمة‏.‏ وعمرو بن قائد ‏{‏السماء والارض‏}‏ بالرفع على أن في السموات هو الخبر لكأين ‏{‏والارض‏}‏ مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة، وقرأ السدى ‏{‏والارض‏}‏ بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره ‏{‏يَمُرُّونَ‏}‏ وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ كما هو فيما قبل أي ويطؤون الأرض يمرون عليها، وجوز أن يقدر يطؤن ناصباً للأرض وجملة ‏{‏يَمُرُّونَ‏}‏ حال منها أو من ضمير عاملها‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏والارض‏}‏ بالرفع و‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ بدل يمرون والمعنى على القراآت الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الأمم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله‏}‏ في إقرارهم بوجوده تعالى وخالقيته ‏{‏إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏ به سبحانه، والجملة في موضع الحال من الأكثر أي ما يؤمن أكثرهم إلا في حال إشراكهم‏.‏ قال ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ والشعبي‏.‏ وقتادة‏:‏ هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول‏:‏ لبيك لا شريك لك يقول له‏:‏ قط قط أي يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكاً الخ‏.‏ وقيل‏:‏ هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سنى القحط وعادوا إلى الشرك بعد كشفه‏.‏ وعن ابن زيد‏.‏ وعكرمة‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد أيضاً أن هؤلاء كفار العرب مطلقاً أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الأوثان والأصنام، وقيل‏:‏ أشركوا بقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله سبحانه‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً أنهم أهل اكلتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزاً والمسيح عليهما السلام‏.‏

وقيل‏:‏ أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً‏.‏ وقيل‏:‏ هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون إذا نجوا منها وروي ذلك عن عطاء، وقيل‏:‏ هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة‏.‏ وقيل‏:‏ هم المنافقون جهروا بالإيمان واخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي، وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملاً وكفروا مفصلاً‏.‏ وعن الحسن أنهم المراؤون بأعمالهم والرياء شرك خفي، وقيل‏:‏ هم المناظرون إلى الأسباب المعتمدون عليها، وقيل‏:‏ هم الذين يطيعون الخلق بمعصية الخالق، وقد يقال نظراً إلى مفهوم الآية‏:‏ إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلاً وكان مرتكباً ما يعد شركاً كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود، واحتجت الكرامية بالآية على أن الأيمان مجرد الإقرار باللسان وفيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله‏}‏ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم، والاستفهام إنكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر، والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقية مشهور وقد مر غير مرة، والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والأخروية على ما قيل‏.‏ وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً‏}‏ فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بإتيانها غير مستعدين لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هذه سَبِيلِى‏}‏ أي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والوتحيد سبيلي كذا قالوا، والظاهر أنهم أخذوا الدعوة إلى الإيمان من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ لافادة أنه يدعوهم إلى الإيمان بجد وحرص وان لم ينفع فيهم، والدعوة إلى التوحيد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ لدلالته على أن كونه ذكراً لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأساً كسائر آيات الآفاق والانفس الدالة على توحده تعالى ذاتاً وصفات، وفسر ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا إِلَى الله‏}‏ أي أدعو الناس إلى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل‏:‏ إن الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الإشارة‏.‏ وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف إليه مخالفة للقواعد ظاهراً وليس ذلك مثل ‏{‏أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ واعترض أيضاً بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك ‏{‏على بَصِيرَةٍ‏}‏ أي بيان وحجة واضحة غير عمياء، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير ‏{‏أَدْعُو‏}‏ وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه بأدعو وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنِ اتبعنى‏}‏ عطف على ذي الحال، ونسبة ‏{‏أَدْعُو‏}‏ إليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏ ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملاً في المعطوف ولم يعول عليه المحققون، ومنع عطفه على ‏{‏أَنَاْ‏}‏ لكونه تأكيداً ولا يصح في المعطوف كونه تأكيداً كالمعطوف عليه‏.‏ واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين، وجوز كون ‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون ‏{‏على بَصِيرَةٍ‏}‏ خبراً مقدماً ‏{‏وَأَنَا‏}‏ مبتدأ ‏{‏وَمِنْ‏}‏ عطف عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحان الله‏}‏ أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيهاً من الشركاء، وهو داخل تحت القول وكذا ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ في وقت من الأوقات، والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله تعالى‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏قُلْ هذا سَبِيلِى‏}‏ على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً‏}‏ رد لقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ نفي له، وقيل‏:‏ المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وزعم بعضهم أن الآية نزلت في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر‏:‏

أمست نبيتنا أنثى نطوف بها *** ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والاقوام كلهم *** على سجاح ومن بالافك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت *** اصداؤه ماء مزن أينما كانا

وهو مما لا صحة له لأن ادعاءها النبوة كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكونه اخباراً بالغيب لا قرينة عليه ‏{‏نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ كما أوحينا إليك‏.‏ وقرأ أكثر السبعة ‏{‏يُوحَى‏}‏ بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول، وقراءة النون وهي قراءة حفص‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبي عبد الرحمن موافقة لأرسلنا ‏{‏مّنْ أَهْلِ القرى‏}‏ لأن أهلها كما قال ابن زيد‏.‏ وغيره‏:‏ وهو مما لا شبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال‏:‏ لأهل البادية أهل الجفاء، وذكروا ان التبدي مكروه إلا في الفتن، وفي الحديث «من بدا جفا» قال قتادة‏:‏ ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولاً قط إلا من أهل القرى، ونقل عن الحسن أنه قال‏:‏ لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ قد مر الكلام فيه آنفاً‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح، وقوم لوط‏.‏ وقوم صالح وسائر من عذبه الله تعالى فيحذروا تكذيبك وروى هذا عن الحسن، وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لاحظ المجوز ما سيذكر، والاستفهام على ما في البحر للتقريع والتوبيخ ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصرى موصوفاً أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند الكثير في مثل ذلك ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا‏}‏ الشرك والمعاصي‏:‏ ‏{‏أفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا إليها بالاتقاء، قيل‏:‏ إن هذا من مقول ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ أي قل لهم مخاطباً أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ‏}‏ إلى ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ أو ‏{‏اتقوا‏}‏ اعتراض بين مقول القول، واستظهر بعضهم كون هذا التفاتاً‏.‏ وقرأ جماعة ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏ بالياء رعيا لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا استيئس الرسل‏}‏ غاية لمحذوف دل عليه السباق والتقدير عند بعضهم لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وقال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الخ، وقال القرطبي‏:‏ التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس الخ، وقال الزمخشري‏:‏ التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فتراخى النصر حتى إذا الخ، ولعل الأول أولى وإن كان فيه كثرة حذف، والاستفعال بمعنى المجرد كما أشرنا إليه وقد مر الكلام في ذلك ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ بالتخفيف والبناء للمفعول، وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وأبى‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وطلحة والأعمش‏.‏ والكوفيين، واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل‏:‏ الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين وفاعل ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ‏{‏جَاءهُمْ نَصْرُنَا‏}‏ فجأة؛ وقيل‏:‏ الضمائر كلها للرسل والظن بمعناه وفاعل ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ المقدر من أخبرهم عن الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج الطبراني‏.‏ وغيره عن عبد الله بن أبي مليكة قال‏:‏ إن ابن عباس قرأ ‏{‏قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ مخففة ثم قال‏:‏ يقول أخلفوا وكانوا بشرا وتلا ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ قال ابن أبي مليكة‏:‏ فذهب ابن عباس إلى أنهم يئسوا وضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح، واستشكل هذا بأن فيه ما لا يليق نسبته إلى الأنبياء عليهم السلام بل إلى صالحي الأمة ولذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك، فقد أخرج البخاري‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية قال‏:‏ قلت أكذبوا أم كذبوا فقالت عائشة بل كذبوا يعني بالتشديد قلت‏:‏ والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت‏:‏ أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت‏:‏ لعله ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ مخففة قالت‏:‏ معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت‏:‏ فما هذه الآية‏؟‏ قالت‏:‏ هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك‏.‏

وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون اراد رضي الله تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها إيضاً إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ فإن الالقاء في قلبه وفي لسانه وفي عمله من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، ثم قال‏:‏ والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى عَنْ الحق شَيْئاً‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏ فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم، وهذا قد يكون ذنباً يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أو قد وجدتموه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال‏:‏ الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه‏:‏ أو لم تؤمن‏؟‏ قال‏:‏ بلى ولكن ليطمئن قلبي» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والإطمئنان شكا باحياء الموتى، وعلى هذا يقال‏:‏ الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمناً بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظناً أنه كذب، فالشك وظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فانهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلى من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه‏:‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏ ولو كان المتبوع معصوماً مطلقاً لا يتأتى الاتساء فإنه التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتدار لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل‏:‏ أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم‏.‏ ومن يشابه أبه فما ظلم‏.‏ ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه‏.‏

ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقرواعلى ذلك والقول به جل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعدما فيه؛ وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فانه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر، وقيل‏:‏ ان الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله‏:‏

أمنك البرق ارقبه فهاجا *** وبت اخاله دهما خلاجا

فإن ضمير اخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه، وان شئت قلت‏:‏ ان ذكرهم قد جرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً، فقد أخرج أبو عبيد‏.‏

وسعيد بن منصور‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهم من طرق عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ مخففة ويقول‏:‏ حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيوا لهم وظن قومهم ان الرسل قد كذبوهم فيما جاؤوا به جاء الرسل نصرنا، وروي ذلك أيضا عن سعيد بن جبير‏.‏ أخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال‏:‏ حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال‏:‏ يا أبا عبد الله آية قد بلغت منى كل مبلغ ‏{‏حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ فإن الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد‏:‏ حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم إليه فاعتنقه وقال‏:‏ فرج الله تعالى عنك كما فرجت عني، وروي أنه قال‏.‏ ذلك بمحضر من الضحاك فقال له‏:‏ لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏ظَنُّواْ‏}‏ للمرسل إليهم وضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ و‏{‏وَكَذَّبُواْ‏}‏ للرسل عليهم السلام وظنوا أن الرسل عليهم السلام اخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم‏.‏ وقرأ غير واحد من السبعة‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ ومحمد بن كعب‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وابن أبي مليكة‏.‏ والأعرج‏.‏ وعائشة في المشهور ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ بالتشديد والبناء للمفعول، والضمائر على هذا للرسل عليهم السلام أي ظن الرسل أن اممهم كذبوهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة، والظن بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم، وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك أنهم قرؤوا ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ مخففاً مبنياً للفاعل فضمير ‏{‏ظَنُّواْ‏}‏ للأمم وضمير ‏{‏أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ للرسل أي ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب، وجوز أن يكون ضمير ‏{‏ظَنُّواْ‏}‏ للرسل وضمير ‏{‏أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون، والظن الظاهر كما قيل‏:‏ إنه بمعنى اليقين، وقرىء كما قال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ بالتشديد والبناء للفاعل، وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا، والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهراً على القراءة الأولى، نسبة ما لا يليق من الظن إلى الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، واستشكل بعضهم نسبة الاستياس إليهم عليهم السلام أيضاً بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فإن ذلك أيضاً مما لا يليق نسبته إليهم‏.‏ وأجيب بأنه لا يراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم‏.‏

واعترض بأنه يبعده عطف ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه‏.‏

وذكر المجد في هذا المقام تحقيقاً غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيآس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهاداً، وذلك أن الخبر عن استيآسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيراً ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين‏:‏ ألم تخبرنا يا رسول الله انا ندخل البيت ونطوف‏؟‏ قال‏:‏ بلى أفاخبرتك إنك تدخله هذا العام‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقاً غير مقيد بوقت، وكونه صلى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقددها لا يوجب تخصيصاً لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة، ولعله عله الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كل ما قصده، بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضاً خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل‏:‏ «إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله تعالى» ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين‏:‏ «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان» وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها ‏{‏إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏ ما فيه كفاية في العلم بأنه صلى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هو هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال‏:‏ إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتاً حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزماً له أصلاً فلا محذور‏.‏ وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم، والظاهر أن ضمير ‏{‏جَاءهُمُ‏}‏ على سائر القراآت والوجوه للرسل، وقيل‏:‏ إنه راجع إليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نصرنا ‏{‏فَنُجّىَ مَن نَّشَاء‏}‏ انجاءه وهم الرسل والمؤمنون بهم، وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم‏.‏

وقرأ عاصم‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏فَنُجّىَ‏}‏ بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول و‏{‏مِنْ‏}‏ نائب الفاعل‏.‏ وقرأ مجاهد‏.‏ والحسن‏.‏ والجحدري‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء، وخرجت على أن الفعل ماض أيضاً كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقاً، ومنه قراءة من قرأ ‏{‏مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ بسكون الياء، وقيل‏:‏ الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم‏.‏ ورده أبو حيان بأنها لا تدغم فيها، وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي‏.‏ ونافع، وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا اليا، ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لا وجه للفتح، وفيه أن الوجه ظاهر، فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله فَيَغْفِرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ بنصب يغفر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة‏.‏

وقرأ نصر بن عاصم‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن السميقع‏.‏ وعيسى البصرة‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وكذا الحسن‏.‏ ومجاهد في رواية ‏{‏فنجا‏}‏ ماضياً مخففاً و‏{‏صَلَحَ مِنْ‏}‏ فاعله‏.‏ وروي عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم، والفاعل حينئذٍ ضمير النصر و‏{‏مِنْ‏}‏ مفعوله‏.‏ وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة‏.‏ وقال مكي‏:‏ أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم، وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري‏.‏ وابن الجزري‏.‏ وغيرهما، وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديراً لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر ولننظر والإخفاء لكونه ستراً يشبه الإدغام لكونه تغييباً فكما يحذف عند الإدغام يحذف عند الإخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال‏.‏ وعن أبي حيوة أنه قرأ ‏{‏فَنُجّىَ مَن يَشَاء‏}‏ بيا الغيبة أي من يشاء الله تعالى نجاته ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا‏}‏ عذابنا ‏{‏عَنِ القوم المجرمين‏}‏ إذا نزل بهم، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏بَأْسُهُ‏}‏ بضمير الغائب أي بأس الله تعالى، ولا يخفى ما في الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏